السفر المقدس في تجربة الشيخ ماء العينين الصوفية

مر بباب الدار مستعجـــلا ما ضره لو دخـــــل الدارا بداية أشكر للقائمين على هذه الندوة الثقافية والفكرية الهامة دعوتهم الكريمة التي أتاحت لي المشاركة في هذه المناسبة، آملا في ذات الوقت أن تكون لبنة أخرى في صرح الكشف عن الجوانب الفكرية والثقافية والصوفية في مدرسة الشيخ ماء العينين رحمة الله عليه. وأما الشيخ ماء العينين فقد طبقت شهرته الآفاق، وسارت بذكره الركبان، وعرفه القاصي والداني، ومن ثمة فلا حاجة لسرد تفاصيل عن حياته، إذ “المعرف لا يعرف … والشيخ ماء العينين لا أشهر منه في زمانه”( 1) كما أجاب من سُئل عن نسب الشيخ. يحتل السفر مكانة خاصة في التجربة الصوفية الإسلامية، بما هي تجربة تخلية وتحلية، وداخل هذه التجربة حاولنا تسليط الضوء على مدرسة الشيخ ماء العينين الصوفية التي تحتفظ بأسباب داخلية ذاتية، وأخرى موضوعية خارجية، جعلتها تبوئ السفر في أدبياتها مكانة خاصة وتوليه عناية فائقة، مما دفع أقطابها ومريديها إلى أن يحرصوا أشد الحرص على السفر نحو عواصم العلم والمعرفة، بموازاة السفر نحو الحرمين الشريفين، موئل الحقيقة والشريعة. فما هو مفهوم السفر في هذه التجربة، وما هي خصوصياته وتجلياته ؟. وإلى أين اتجهت مؤشراته؟. وما هي حدود الحقيقة والرمز فيه؟. يمثل السفر حركة ضمن مسار خاص لتجربة خاصة هي التجربة الصوفية التي لم ترتبط في تجربة الشيخ ماء العينين بالأوراق، ولم تقتصر على كونها وجدان وأذواق… ولكنها كانت بجانب كل هذا، وعيا وممارسة، وسلوكا ومعاملة، أي أنها قد تجسدت على أرض الواقع والممارسة قولا وفعلا. ولأن لكل سفر مقصدا، فقد كان السفر في تجربة الشيخ ماء العينين ميمما شطر الحقيقة، هذه الحقيقة التي عبر عنها بوضوح تام الشيخ قائلا: ” اعلم أن الحضرة الإلهية والواصلين إليها تمثل بمدينة كبيرة، بمكة خاصة، شرفها الله، تأتي إليها الناس من كل فج عميق، وفيها من حاجة كل أحد ما لا يوصف، وأهلها يعرفون كل أحد لكثرة ورود أهل الآفاق إليها بكل ما يوصف… وهذه المدينة من وصلها لا يبغي بها بدلا”.( 2) والثابت أن السفر الصوفي على قسمين؛ “سفر بالبدن، وهو الانتقال من بقعة إلى بقعة، وسفر بالقلب، وهو الارتقاء من صفة إلى صفة، فترى الكثيرين يسافرون بأجسامهم، والقلائل يسافرون بقلوبهم”(3 ). ولما كان السفر بالقلب في تجربة الشيخ ماء العينين الصوفية رديفا للسفر بالبدن، بل إن هذا ليس إلا جسرا نحو ذاك، فقد توحد الفعلان في رحلة الشيخ ماء العينين الحجازية، فكان من أولئك القلائل الذين وصلوا بالقلب والبدن لموئل الحقيقة والشريعة؛ الكعبة المشرفة التي قصدها حاجا عام 1274 هـ. ويعضدنا فيما ذهبنا إليه من تـأويل وتفسير، ارتباط هذه الرحلة المقدسة بالكرامة، فالشيخ، كما ورد في الرحلة المعينية، كان أول من حج من قبيلته “ورجع إلى أهله سالما، وقد كانوا قبله كل من سافر منهم إلى الحج يموت في سفره قبل رجوعه إلى أهله، حتى صار ذلك كأنه أمر معتاد عندهم مجرب، لا طمع لهم في غياب من سافر للحج إلى أهله، لكثرة موتهم في طريق… قال جامع الرحلة مريده وحفيده ماء العينين بن العتيق: ومن كراماته أيضا انه حيث أكرمه الله بالحج والرجوع، صار ذلك سببا لدوام انخرام تلك العادة”.( 4) شكل ارتباط السفر بالموت قاعدة كسرها الشيخ ماء العينين، فهل لذلك ارتباط بالمفهوم الصوفي الخاص للسفر؟. أو أن الأمر مرتبط بالكتابة والتدوين، إذ كتب الشيخ رحلته ودونها، وقد نشرت هذه الرحلة بالمطبعة الحجرية بفاس العامرة، ولكنها اليوم في حكم المفقود، والأمل في أن ترى النور من جديد فيكم جميعا معقود. ويحق لنا كقراء أن نأخذ الحكاية بطرفيها، الحقيقي والرمزي، ما دمنا على أعتاب الطريقة نحاول جاهدين تلمس بعض حقائقها، فرجوع الشيخ مرتبط بخروجه؛ ولهذا فقد كان خروجه من بلاده ووداعه لأهله وولده “موادعة الأكوان، ومقاطعة الأقران، ومهاجرة الأوطان، رغبة في الوصلة بالرحمن، على كامل الحب المؤدي إلى منازل القرب”( 5). “عساكم كلكم يكون قطبا في أرضه وأنت هو قطبهم”(6 ) عبارة غير عادية سمعها شيخ غير عادي في مكان غير عادي، وبناء عليه، فقد أعطت الرحلة ثمارها، وآتت المرجو منها، وجعلت الشيخ ماء العينين يتبوأ مكانة لم يبلغها أحد من قبل من قبيلته، وبهذا فقد عادا حيا، مذكورا، مشهورا، بخلاف من عاد قبله/ أقصد، بل الحكاية تقصد، من لم يعد قبله؛ من مات. والشيخ ماء العينين، انسجاما مع رحلته الذوقية والروحية التي اتخذت مسارها من حدود الظاهر نحو ضفاف الباطن، إنما يتكئ على عصا الحقيقة؛ “إذ الطريق إلى الله تعالى، لها ظاهر وباطن، فظاهرها الشريعة، وباطنها الحقيقة، فكمون الحقيقة في الشريعة، ككمون الزبد في لبنه والكنز في معدنه”.(7 ) يقول رحمة الله عليه منبها(8):لا تجعل الرحيل من كون لكون بل للمكون رحيلك يكـــونوانظر إلى قول النبي من كانت هجرته لاخر قد بانـــــتولتتأمل ذلك الكلامــــا فهو يرشدك والسلامـــــا ولأن الحقيقة، وإن كانت واحدة، فقد تعددت دروبها، وتشعبت مسالكها، وتفرعت طرقها، فقد كانت رؤية الشيخ ماء العينين للكعبة المكرمة/ الحقيقة، مرصودة من هذه الزاوية، حيث رآها العارف ذات منارات سبعة وأبواب تبلغ عدتها الأربعين، يقول الشيخ ماء العينين في رحلته: ” فائدة في عدد أبواب مسجد الله الحرام، ومناراته. أما الأبواب الكبار، فهي تسعة عشر، لكن ربما تكون في الباب الواحد أربعة أبواب، أو أكثر أو أقل، ولا أظن الجميع إلا يبلغ الربعين أو قريبا منها، والله تعالى اعلمن وأما المنارات، فهي سبعة”( 9). فالبيت الحرام الذي هو “قلب كل إنسان”(10 ) متعدد الأبواب، كثير المنارات، مثله في ذلك مثل الحقيقة تماما، ولا بد من التذكير هنا أن الطريقة الفاضلية التي ينتسب إليها الشيخ ماء العينين قد آمنت بتشعب مواقف الطريق وتعدد منازلها واختلاف وسائل قطعها، والسير في مجاهلها( 11). شكل السفر في المدرسة الصوفية المعينية ركنا رئيسا من أركان الطريقة، وسلوكا معتادا لدى أقطابها مريديها، وقد ساهم في تأصيل هذا السلوك وترسيخه مجموعة من العوامل الجغرافية والثقافية والاجتماعية والفكرية، وداخل المجال الصوفي، فقد اعتبرت السياحة ضرورية، “والمريد تزداد معرفته بربه بمقدار معرفته بخلق ربه، إذ المسافر يشاهد كل يوم تجليا جديدا”(12 ). وعليه، فإن السفر في هذه التجربة اكتسى طابع القدسية لأنه كان في جوهره سفرا من الخلق إلى الحق.
  1. الرحلة المعينية، ماء العينين بن العتيق، تحقيق: د. محمد الظريف، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط 1998، منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه، ص: 269. مفيد الراوي على أني مخاوي، تأليف الشيخ ماء العينين، تحقيق: د. محمد الظريف، منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه، ص: 69.
  1. الرسالة القشيرية، عبد الكريم القشيري، تحقيق: مصطفى زريق، المكتبة العصرية، بيروت، 2001، ص: 289.
  2. انظر: الرحلة المعينية، ص: 260.
  3. الإيضاح لبعض الاصطلاح، الشيخ ماء العينين، تحقيق: د. محمد الظريف، منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه، 2001 ،ص: 69.
  4. انظر: الرحلة المعينية، ص: 133.
  5. نفسه، ص: 42.
  6. أنظر: تجليات الفكر الصوفي والسلفي عند الشيخ ماء العينين، د. محمد الشيخ الطالب اخيار الشيخ ماء العينين، المطابع المغربية والدولية، طنجة، دت، ص: 79.
  7. انظر: الرحلة المعينية، ص: 235- 236.
  8. الإيضاح لبعض الاصطلاح، ص 65.
  9. انظر: مفيد الراوي، ص: 28.
  10. التصوف كوعي وممارسة، عبد المجيد بن الصغير،دار الثقافة، 1999، ص: 147.
  الكاتب سليمان القرشي باحث مغربي، دكتوراة في الأدب العربي المصدر: موقع ديوان العرب