شهدت سنة 1908 أحداثا و معارك بطولية. تكبد فيها المستعمر الفرنسي خسائر فادحة، تحدثت بها أقلام و شهادات عسكره قبل أن تسطرها كتابات المقاومة.
يقول النقيب غاستون دوفر عن هذه السنة: ” هذه أكثر فترات احتلالنا ضررا لنا، لما تكبدناه خلالها من خسائر كثيرة و مؤلمة. و رغم أن الشهرين الأولين من السنة مضيا بهدوء إلا أن عودة السفارة من المغرب إلى آدرار مزودة بأسلحة سريعة الرمي ترافقها عصابة من تلاميذ الشيخ ماءالعينين، قد بدلت تماما الحالة السياسية و العسكرية.
تولى الشيخ حسن ابن شيخ الساقية الحمراء القيادة الفعلية للصراع فأظهر ذكاء و عنادا غير عاديين. و بينما كانت غزيان لا تحصى تجوب المناطق التي نحتلها و تجهد في الاستيلاء على كل دواب الحمل، كانت مجموعات مؤلفة أساسا من التلاميذ تهاجم مفارزنا. و بفضل تسليحهم و الانضباط الذي يفرضونه على أنفسهم و كذلك –ولنقلها- بفضل شجاعتهم الحقيقية، نجحوا في أن يسببوا لنا إخفاقات دامية.”[1]
ينتقل غاستون في جرده لعمليات الجيش الفرنسي كما يسميها، ليقدم حيثيات المعركة منذ تحرك النقيب مانجان إلى مناطق الحاذ بشمال تجكجة للانتجاع كما يقول غاستون في كتابه:
“ذهب النقيب من تالمست ومعه الرقيب Megnin وثمانية وعشرون رام ورشاشا وجمالان وثلاثة رعاة وخادم كلهم مسلحون لمحاولة حفر آبار قرب مرعى من الحاذ يبعد ثلاثين كيلومترا عن تالمست وخمسة عشر كيلومترا عن ورغم أنه لم يصل إلى نتيجة فقد تمركز صباح 13 وسط المراعي بعد أن أرسل إلى الطبيب البيطري يأمره أن ينضم إليه بباقي المفرزة ذهبت سخرة من سبعة رجال إلى آبار المينان. أقيم المعسكر على ربوة في ميدان من تموجات تبدو سهلة المراقبة لكن تقاطعات الكثبان شكلت مسالك تسمح بالاقتراب سرا حتى مئات الأمتار من المعسكر بينما يناوب حارس واحد والجمال مطلقة ترعى قريبا.
بدأ الهجوم عند منتصف النهار وأطلقت الرصاصات الأولى من مسافة تقل عن خمسين ومائتي متر. طوق المهاجمون الذين ناهز عددهم الخمسين ومائة، الرشاشة البالغ عددهم واحد وعشرين والذين تجمعوا حول النقيب وهو يحاول تشغيل الرشاش لكنه تعطل فقتل عليه. قتل الرقيب ميكنين في نفس اللحظة تقريبا وتساقط الرماة الواحد تلو الآخر لتتوقف النيران من جهتنا بعد نصف ساعة من بداية القتال. وكان التلاميذ قبل أن يهاجموا المفرزة قد قتلوا رجال سخرة الماء السبعة.
يضيف النقيب في روايته عن اليوم الثاني، ويقصد معركة تالمست:
كان البيطري آمييت قد انطلق مساء 13 للانضمام إلى النقيب وحوالي منتصف النهار سمع الرماة المناوبون في المراعي تبادلا قويا وقصيرا لإطلاق النار وعثروا على آثار ثلاثة بيظان راكي جمال جاؤوا لمراقبة معسكر تالمست. عند الرحيل افتقدت بعض الحمير فكلف الرقيب Oualo ومعه عريف وسبعة رماة بالبحث عنها. مع بزوغ يوم 14 رتب السيد آمييت معسكره في موقع ممتاز على ربوة مرتفعة تكفها نتوءات صخرية. وبينما كان الجنود مشغولين في تنزيل الحمولة ظهر التلاميذ الذين كانوا قد باتوا قريبا وهاجموا فورا.
اشتد القتال منذ البداية فالعدو ازداد جرأة نتيجة لنجاحه في اليوم السابق ولديه ذخائر وافرة ورغم ذلك ردت صولاته نتيجة القيادة الحازمة للرقيبين أيفــــرار ولاروك . تطوعت بعض نساء الرماة لتزويد مقاتلينا بالذخيرة فقتلت إحداهن. وأصبحت الحالة حرجة نحو منتصف النهار إذ قتل ثمانية من الرماة الأربعين وجرح تسعة…“[2]
بالنسبة لرواية المقاومة، أسهب المؤرخ الطالب أخيار بن مامينا في ذكر تفاصيل المعركة بما يوافق نسبيا ما ذكره غاستون في مغلب أحداثها، مع اختلاف في بعض الأرقام، مستندا، في روايته لكتابات سعد خليل و شهادات شفوية، وإلى رواية المشايخ المعاصرين للمعركة، الشيخ محمد الأغظف و الشيخ مربيه ربه، يقول المؤرخ الطالب أخيار:
وتعرف بمعركة “تالمست” و”غزوة بوضرس و تمت على مرحلتين الهجوم الأول كان يوم السبت 13 جمادى الأولى 1326هـ والهجوم الثاني كان فجر ا 14 جمادى الأولى. (13-14) يونيو 1908م.
وقد أعدت لهذه المعركة عُدتها من حيث العتاد والتنظيم الجيد، وقد لمس الشيخ حسنا لدى المجاهدين حماسا كبيرا وروحا قتالية عالية أثناء توديعه لهم في آدرار.
تعد معركة “المينان” من المعارك التي تكبدت فيها القوات الفرنسية خسائر فادحة في الأرواح والعتاد وتركت هذه المعركة في نفوس الفرنسيين أحزانا وآلاما كبرى لما فقدوا من ضباطهم وجنودهم بالرغم من أن الوحدة الفرنسية كانت مزودة بترسانة هائلة من الأسلحة المتطورة، وخاصة المدافع الرشاشة التي لا قبل للمجاهدين بها، والتي حرص المحتلون على ألا يتولاها إلا الفرنسيون أو الأوفياء لهم من الرماة السنغاليين. ولولا هذه الرشاشات وأجهزة اللاسلكي المتطورة – وقتها – والتي لا يتولاها، هي الأخرى إلا الجنود الفرنسيون لما صمد جيش الاحتلال في وجه استماتة وشراسة المجاهدين المدافعين عن عقيدتهم وعن بلدهم وهم أصحاب بأس شديد ومهارة قتالية عالية وخبرة بالأرض ومواقع الآبار. هذا فضلا عن الأموال الطائلة والهبات التي بذلها الفرنسيون لشراء الذمم والأعراض واستصدار الفتاوى لصالح احتلالهم.
ذكر سعد خليل: « أن هزيمة “المينان” أحدثت دويا كبيرا في جميع الأوساط الفرنسية،”[3]
بعد هذه المقدمة الذي تلخص المعركة و آثارها، يبدأ الطالب أخيار في وصف مجرياتها منذ لحظة الانطلاق فيقول:
انطلقت كتيبة المجاهدين من شمالي “آدرار”، وهي إحدى فرق الجهاد المنضوية تحت إمرة الشيخ حسناء المنسق العام بين الوية وسرايا المجاهدين. وكان الشيخ ماء العينين قد عهد برئاسة هذه الكتيبة إلى مريده الشيخ سيدي محمد بن حامني الغلاوي. فمرت كتيبة المجاهدين في طريقها إلى “المينان” بموضع “الشعرانية” ثم واصلت مسيرها إلى الجنوب من بئر “الْمَالِحة” في “الخط، ولما وصلت “أذَنْدُون العَلُوشِيَّة” قرب “المينان” وكان الوقت شديد الحر، أرسلت واردتها إلى بئر قريب منها ، فالتقى أفراد الدورية برجل يدعى سويلك بن وكال الإديشلي وأخبرهم بأن الكتيبة الفرنسية رحلت إلى أدندون العلوشية” وأنها خالية البال، لم تشعر بهم. وبينما واردة المجاهدين في طريق عودتها التقت بواردة النصارى تقصد البئر، وتتألف من سبعة أفراد ستة من الرماة السود و”كومي” من البيضان، فكمنوا لهم حتى وقعوا في الكمين فقتلوا ستة منهم بالسلاح الأبيض، وتركوا البيضاني ليدلهم على مكان الكتيبة، وأخذوا جمالهم وبنادقهم ثم رجعوا لأصحابهم وأخبروهم بخبر الحامية، فتبادلوا الآراء فيما يفعلون فقال بعضهم : ننتظر حتى يخف الحر، فنهاجمهم؛ فقال عبد الرحمن الملقب ألل بن مولاي الزين الرأي أن نباغتهم في هذا الوقت قبل أن يشعروا بنا. فوافق الجميع.
وكان جنود الحامية في ذلك الوقت داخل القباب والحارس بين أغصان شجرة وارفة الظلال ، ومن حسن الحظ أن الحارس خلد للراحة فنام. وكان قائد كتيبة المجاهدين قد زوده شيخه بطلقة أوصاه أن يقرأ عند رميها قوله تعالى ” وما رميت إذ رميت ولكن الله رمی“.
نشبت المعركة وقت الزوال. وكان الأسلوب الذي اتبعه المجاهدون في هذه المعركة هو تكثيف النيران لارباك العدو وزعزعة معنوياته ، ثم الاندفاع نحو خطوط دفاعات الحامية وتطويقها. أول من تقطن للمجاهدين، ورآهم يقتربون ، هو النقيب مانجان، فنادى بأعلى صوته: البيضان جاءوا، وقام إلى المدفع الرشاش ووجهه صوب المجاهدين وما إلا طلقته الأولى حتى أصيب برصاصة أحد المجاهدين الذين اندفعوا نحو هي الحامية، يكبرون ويطلقون النار بكثافة. وبعد وقت قصير اكتسحوا المعسكر وأبادوا جميع الرماة بعد موت النقيب مانجان ،أثناء المداهمة خلفه آخر وأطلق وابلا من الرصاص فأصيب هو الآخر، فجاء ثالث فأصيب في رقبته بجرح بالغ وسقط مغشيا عليه في هذه اللحظة تمكن تسعة من أفراد الحامية من الفرار فتبعهم في الحال مقاتلون من أهل أحجور كانوا قد انضموا للمجاهدين قبل ذلك، فقتلوهم جميعا وأخذوا أسلحتهم وفي طريق رجوعهم إلى محل المعركة التقوا برجل يدعى محمد الأمين بن اغلي هاربا ويصرخ بأعلى صوته : أنا من “إدوعلي” ولست مع النصارى ! فقال له المختار بن سيدي الأمين هون من روعك لن نقتلك. وأنت لست من إدوعلي ونحن نعرف من أنت أنت من رعاة ذبائح النصارى، فاتج بنفسك ولن نخسر فيك رصاصة وهكذا منيت هذه الحامية بهزيمة ساحقة حيث تناثرت أشلاء القتلى والجرحى من الجنود الفرنسيين في ساحة المعركة. بعد انتهاء المعركة شرع المجاهدون في ذبح الغنم التي كانت عند الحامية لاعداد الطعام…[4]
ثم ينتقل الطالب أخيار في حديثه عن فصول المعركة، إلى اليوم الثاني فيقول نقلا عن سعد خليل:
وتحدث سعد خليل عن هذه الوقعة وقال: «أما قوة هجانة “تكانت” التي يقودها جورج مانجان فقد أصيبت بدورها بضربة قاضية كانت هذه القوة تحتل منطقة “تالمست” شمالي تجكجة، وهي تمثل بذلك مركزا أماميا جهة الشرق يماثل المركز الأمامي في “أكجوجت” جهة الغرب… وفي 13 يونيو كلف مانجان الملازم باستكشاف منطقة “عيون البقر”، بينما توجه هو إلى “المينان” شمال جوسبي تالمست” لإصلاح الآبار التي طمستها الرمال، وترك مؤخرة قوته الباقية في “تالمست”. واستفاد رجال الشيخ حسنا من انتشار قوة مانجان وبعثرتها، فقاموا سريعا بتجهيز قوة كبيرة من 150 مقاتل… وتمكنت هذه القوة من قتل مانجان وإبادة قوته بالكامل. وفي اليوم التالي قامت بمهاجمة المؤخرة في “تالمست” وقضت عليها مستفيدة من الأسلحة والذخائر التي استولت عليها في اليوم السابق[5]”
يتمم الطالب أخيار روايته ليورد شهادتين لاثنين من أبناء الشيخ ماءالعينين، حيث يشير أولا إلى إشارة الشيخ مربيه ربه إلى هذه المعركة في كتابه “قرة العينين” حين قال:
“وتسمى بغزوة أبي ضرس، وهو طاغية من طغاة الروم، لأنه قتل فيها مع كثير من قومه، وغنم ما عندهم من السلاح والأثاث ومن جملة ذلك بوتاسرت وهو مدفع يضرب على كل ناحية وفيه خمسة وعشرون قرطوسة ومن شاء فليزده، وما جعل فيه يضرب أقل من دقيقة”[6]
ليضيف أيضا في تعداده للغنائم مستندا لرسالة الشيخ محمد الأغظف بقوله:
“غنم المجاهدون ثمانين بندقية (رباعية)، ومدفع رشاش (بوتاسارت)، وخمسمائة من الإبل وخمسة من القباب (خيام) وخيمة كبيرة. وهذه الغنائم ذكرها الشيخ محمد الأغظف في رسالة بعث بها إلى الشيخ ماء العينين يطلعه فيهـا علـى تفاصیل ماجرى في معركة “المينان” ، وقد تحرى الدقة فيما ذكر فقد جاء في بعض فقرات الرسالة ما يلي : … وآدرار أهله في عافية وكلمتهم منتظمة على أميرهم….. وغزوة سيدي محمد بن عبد العزيز التقت مع النصارى في المينان واقتتلوا قتالا عظيما وأهلك الله من النصارى سبعة وستين وقت المعركة على التحقيق. وعدد النصارى مائة وأربعون ولم يبلغ تججك منهم إلا عشرون وأما المسلمون فاستشهد منهم خمسة وعشرون وأخذ المسلمون غنيمة كبيرة من السلاح..”[7]
في تسمية المعركة بمعركة بوضرس، نذكر ما قاله الشيخ سيدي محمد بن حامني و نقله المؤرخ الطالب أخيار:
وذكر الشيخ سيدي محمد قائد الغزوة أنه هو الذي نزع ضرس مانجان من فمه وأنها كانت من الذهب وتحدث عن سير المعركة فقال: « أخذت فرسه من فمه بعد أن قتل شر قتلة، وكان معه نصراني يقال له : أصرير وقتلا، وكان معه كثير من أعلاج السودان. وجميع من كان معهما قتل منهم نحو التسعين بين يومين، اليوم الأول لم يبق ممن كان مع أبي الفرس أحد. واليوم الثاني كان شديدا علينا وعليهم، فجميع من استشهد منا ستة وعشرون منها أربعة في اليوم الأول، واثنان وعشرون في اليوم الثاني وبقيت أنا في المعركة مجروحا، وبقيت ثلاثة أيام ونصف يوم لم أكل ولم أشرب إلا نصف اليوم الأول شربت فيه. والزمن زمن الحر في يونيه وقد قيل الأصحابي أني استشهدت، فلما رجع لي منهم ثلاثة وجدوني لا بأس علي الحمد والمنة. وسعت الغزوة للأعداء 300 جمل أي أخذتها سعاية وغنيمة”.[8]
المصادر:
1- تاريخ العمليات العسكرية في موريتانيا ق17 -1920، النقيب غاستون دوفور، ص 107 و 108.
2-تاريخ العمليات العسكرية في موريتانيا ق17 -1920، النقيب غاستون دوفور، ص 118 119 120.
3-الشيخ ماء العينين علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوروبي؛ الجزء الثاني، الطبعة الثانية ص 308. تأليف: الطالب أخيار بن الشيخ مامينا؛ منشورات مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث والتنمية.
4-نفس المصدر ص 309-310
5- نفس المصدر ص 311-312
6-نفس المصدر ص 312
7-نفس المصدر ص 312
8- نفس المصدر ص 315